العذاب النفسي أشد من العذاب الجسماني
ليس عـذاب أهل النار عذاباً جسمانياً فقط، يعذبون فيه بالنار التي تنضج جلودهم، ثم ينبت في الحال غيرها، وتحرق صدورهم حتى يبلغ قلوبهم. قال - تعالى -: {نار الله الموقدة التي تطلع على الأفئدة} (الهمزة: 6-7) أي التي يدخل لهيبها إلى الفؤاد، والتي توضع أحجارها المحماة على حلمة ثدي أحدهم حتى يخرج الحجر من ظهره، ويوضع فوق ظهره حتى يخرج من صدره!!
قال - صلى الله عليه وسلم -: [بشر الكنازين برضف يحمى عليه في نار جهنم، فيوضع على حلمة ثدي أحدهـم حتى يخرج من ناغض كتفيه، ويوضع على ناغض كتفيه حتى يخرج من حلمة ثدييه، يتزلزل]!! (رواه مسلم)
ومن العذاب الجسماني في شربهم الحميم، وأكلهم الزقوم، ولدغ حيات كالبغال تنطلق من كهوف في النـار ويسري سمها في أجسامهم يعمل عمل النار أو أشد...ليس هذا هو عذاب أهل النار فقط، بل إن عذابهم النفسي مثل ذلك وأشر.فمن ذلك:
(1) التقريع الدائم من خزنة النار كقولهم لهم: {ألم يأتكم رسل منكم يقصون عليكم آيات ربكم وينذرونكم لقاء يومكم هذا قالوا بلى ولكن حقت كلمة العذاب على الكافرين} (الزمر: 71)
(2) وكذلك إهمال ملائكة النار لاستغاثاتهم وصراخهم أو أن يرقوا لحالهم.. بل مضاعفة العذاب لهم كلما استغاثوا. قال - تعالى -: {وإن يستغيثوا يغاثوا بماء كالمهل يشوي الوجوه}. قال - تعالى -: {وقال الذين في النار لخزنة جهنم ادعوا ربكم يخفف عنا يوم من العذاب* قالوا أو لم تك تأتيكم رسلكم بالبينات قالوا بلى قالوا فادعوا وما دعاء الكافرين إلا في ضلال} (غافر: 49-50)
وعندما يبلغ بأهل النار كَرْبَهُم وَغَمَّهُم غايته يسألون مالك خازن النار، وهو أشد ملائكة العذاب شدة وغلظة {يا مالك ليقض علينا ربك} فيرد عليهم بعد ألف سنة - وهو يوم واحد من أيام الآخرة- : {إنكم ماكثون لقد جئناكم بالحق ولكن أكثركم للحق كارهين} (الدخان: 77-78)
وإذا بلغ منهم الغم مداه عادوا بالمقت على أنفسهم فقالوا: {لو كنا نسمع أو نعقل ما كنا في أصحاب السعير} (الملك: 10) وهذا اعتراف منهم بالذنب أنهم لم يكونـوا ذوي آذان تسمع النداء - نداء الحق - في الدنيا، ولا ذوي عقول تعي دعوة الحق التي جاءتهم على اللسنة الرسل!!
وإذا علموا السبب الحق في ضلالهم وعادوا بالملامة على أنفسهم، وندموا حيث لا تنفع الندامة، وتحسروا حيث لا تزيدهم الحسرة إلا مثلها، ومقتوا أنفسهم نودوا بما يصيبهم بغم وكرب أعظم من الذي نالوه كله، وهو أن سخط الرب ومقته لهم أعظم من مقتهم أنفسهم.
قال - تعالى -: {إن الذين كفروا ينادون لمقت الله أكبر من مقتكم أنفسكم إذ تدعون إلى الإيمان فتكفرون} (غافر: 10)
وسبب مقتهم أنفسهم أن الإيمان قد كان في متناول يدهم لو تناولوه، وأما الآن فالإيمان بعيد ولا يقبل منهم {وقالوا آمنا به وأنى لهم التناوش من مكان بعيد} (سبأ: 52)
فقـد كان المطلوب منهم إيماناً بالقلب بوحدانية الله وشهادة باللسان، وعملاً صالحاً سهلاً ميسوراً يستعذبه المؤمن في الدنيا، ويمتع به في الدنيا قبل الآخرة... فالصائم يفرح في الدنيا بصومه، والمصلي يشعر بالرضا بصلاته، والمتصدق يسكب الله في قلبه من معاني الخير والفضل ما هو خير من إمساكه ما تصدق به، والحـاج يستعذب المشقة في سبيل الله وذاكر الله يقول: "إننا والله في نعمة لو علمها الملوك وأبناء الملوك لجالدونا عليها بالسيوف"!! والراضي بالحـلال في المأكل والمشرب والمنكح يشعر بسعادة ورضى لا يشعر بها من يعيش فيما حرم الله عليه من المآكل والمناكح والمشارب. قال - تعالى -: {ومن أعرض عن ذكري فإن له معيشة ضنكاً ونحشره يوم القيامة أعمى} (طه: 124)
(3) ومن العذاب النفسي لأهل النار قمعهم المطارق، وتأنيبهم مع هذا العذاب المذل بالتبكيت، وصنوف الإذلال كقول الملائكة لهم بعد صب العذاب فوقهم: {ذق إنك أنت العزيز الكريم}!! (الدخان: 49)
وقولهم: {إن هذا ما كنتم به تمترون}!!،
وقولهم: {أفسحر هذا أم أنتم لا تبصرون}!! (الطور: 15)
(4) ومن ذلك أن يكون العذاب في نفسه مهيناً كالسحب على الوجوه في النار: {يوم يسحبون في النار على وجوههم ذوقوا مس سقر}، والأخذ بالنواصي والأقدام، ثم الإلقاء في النار: {يعرف المجرمون بسيماهم فيؤخذ بالنواصي والأقدام} (الرحمن: 41)
أو الدفع والدز الشديد إلى العذاب. قال - تعالى -: {يوم يدعون إلى نار جهنم دعا هذه النار التي كنتم بها تكذبون} (الطور: 13-14)
والدع: هو الدفع العنيف، والدز بشدة وقوة وعنف.
وقد سمى الله عذاب الآخرة بالعذاب المهين، وذلك أن من يصلاه يهان أعظم إهانة وأكبرها. قال - تعالى -: {ومن الناس من يشتري لهو الحديث ليضل عن سبيل الله بغير علم ويتخذها هزواً أولئك لهم عذاب مهين} (لقمان: 6)
(5) وأعظم أنواع الإهانات التي يتلقاها أهل النـار عياذاً بالله هي حلول غضب الله وسخطه عليـهم، والتخلي عنهم، ونسيانه - سبحانه وتعالى - لهم ومقتهم. قال - تعالى -: {إن الذين يشترون بعهـد الله وأيمانهم ثمناً قليلاً أولئك لا خلاق لهم في الآخرة، ولا يكلمهم الله ولا ينظر إليهم يوم القيامة، ولا يزكيهم ولهم عذاب أليم} (آل عمران: 77)
(6) ومن ذلك الفضيحة بالذنب على رؤوس الأشهاد والتشهير بهـم على الملأ، بل على رءوس الناس جميعاً يوم القيامة. قال - تعالى -: {يوم تبلى السرائر* فما له من قوة ولا ناصر} (الطارق: 9-10)
ومعنى تبلى تهتك، ويظهر ما كان في الخفاء مما أَسَرَّه أصحاب الذنوب والمعاصي.
وقال - تعالى - بعد أن صور مصارع الهالكين من قوم نوح وعاد وثمود، وأصحاب لوط، وقوم شعيب: {إن في ذلك لآية لمن خاف عذاب الآخرة ذلك يوم مجموع له الناس وذلك يوم مشهود} (هود: 103)
أي يشهده الناس جميعاً ويحضرونه... فمن عذبه الله في هذا اليوم، وأظهر فضائحه على الملأ، وشهر به أمام جميع الخلائق، فقد أهانه أبلغ الإهانة، وأذله غاية الإذلال قال - تعالى - عن دعاء المؤمنين ربهم: {ربنا إنك من تدخل النار فقد أخزيته، وما للظالمين من أنصار} (آل عمران: 192)
وقـال إبراهيم - عليه السلام - في دعائه: {ولا تخزني يوم يبعثون يوم لا ينفع مال ولا بنون إلا من أتى الله بقلب سليم} (الشعراء: 87)
وقال - صلى الله عليه وسلم - :[لكل غادر لواء عند استه يوم القيامة له بقدر غدره، ألا ولا غادر أعظم غدراً من أمير عامة] (رواه مسلم) .